نشر هذا المقال في جريدة النهار.
احتلّت فرنسا وللمرّة الأولى المرتبة الثانية بين مصدري الانظمة الدفاعية في العالم في مرحلة ما بين ٢٠١٩و٢٠٢٣ بعد الولايات المتحدة الاميركية، وذلك حسب تقرير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام (SIPRI) والذي يصدره المعهد سنوياً. وحسب سيبري، تراجعت صادرات روسيا التي جاءت في المرتبة الثالثة بعد فرنسا في الفترة الزمنيّة نفسها.
وعلى صعيد منطقة الشرق الأوسط حيث تعود حصة الأسد للولايات المتحدة الأميركية بنسبة 52٪ من صادرات السلاح، احتلّت فرنسا المركز الثاني أيضا (12%)، تلتها إيطاليا (10%) ثم ألمانيا (7%).
ووردت ثلاث دول عربية بين اوّل عشرة مستوردي انظمة الدفاع في العالم: السعودية التي احتلّت المركز الثاني عالمياً، ثم قطر في المركز الثالث ومصر في المركز السابع. وتبقى الاسواق العربيّة واعدة في المستقبل المنظور بحكم امكانات دولها الهائلة وطموحاتها الجيوسياسية وحاجاتها الواسعة لتطوير قدراتها الدفاعية تماشياً مع تطوّر موازين القوى في الاقليم وضرورة التأقلم المستمر مع المخاطر المتجددة.
فهل أصبحت فرنسا اليوم البديل المنطقي للولايات المتحدة الأميركية في قطاع تكنولوجيا الدفاع؟ السؤال يفرض نفسه بحكم صعود فرنسا الى المركز الثاني بين مصدري أنظمة الدفاع، خلف العملاق الاميركي وامام روسيا ودول غربيّة متطورة تكنولوجيا ايضا ومن ضمنها دول وازنة سياسياً، وذلك بالرغم من النتائج المتواضعة التي تحققها في الاسواق الاوروبيّة (حيث يتجاوز تدريجيّاً الانفاق الدفاعي للعديد من دول الناتو عتبة الـ2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي المطلوبة في الحلف من دون ان تستفيد من ذلك الصناعات الفرنسية)؟
ما الذي يفسّر نجاح قطاع صناعة الدفاع الفرنسيّة في الاسواق العالميّة ومن ضمنها اسواق الشرق الاوسط؟
بالمقارنة مع منافسيها، تتميّز فرنسا على عدة مستويات:
- تفوّق تكنولوجي مبني على قاعدة صناعيًة واسعة ومتكاملة تغذيها خبرات تكتسبها الجيوش الفرنسيّة بفضل وجودها الواسع الانتشار في العديد من مناطق العالم ومنها في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط والخليج والبحر الأحمر والمحيط الهندي.
- ارادة سياسيّة وقدرة عمليّة على الالتزام مع شركائها وعلى احترام تعهّداتها عبر وجود عسكري مباشر واستقلاليّة في اتخاذ القرارات دفاعا عن مصالحها وعن مصالح شركائها الاقليميين وذلك ضمن التنسيق الفعّال والمتوازن مع منظومة حلفائها الدوليين.والأمثلة على ذلك عديدة ومن بينها استنفار القوات الفرنسية المتمركزة في دولة الإمارات للدفاع عن سيادة وسلامة أراضيها في وجه الاعتداءات الخارجية.
- تفهّم أولويّات شركائها أكانت سياسية واستراتيجية أو عسكرية وعملانية أو تكنولوجية وصناعية،مما يسمح للسلطات السياسية والعسكرية وللصناعيين الفرنسيين تقديم برامج دفاعية تحاكي طموحات الشركاء وتلبّي حاجاتهم على كافة الاصعدة.
- عدم فرض شروطها السياسية او العملانيّة (وبالأخص وجهة استعمال السلاح) على مستوردي الانظمة الدفاعيًة الفرنسيّة، بحيث تختار السلطات الفرنسية جهات تشاركهم الرؤية الاستراتيجيّة دون المبالغة في وضع قيود للحدّ من فاعليّة أنظمتها العسكرية.
فتصدير معدّات ذات طابع سيادي كامل يمر بتراخيص فرنسيّة مئة في المئة، نابعةً حصرياً من قرار سيادي، وهذا عنصر أساسي بالنسبة لمستوردي الانظمة الدفاعيّة كما ظهر ذلك جليّاً عندما قررت المانيا (وهي أحد الشركاء المصنّعين للطائرة المقاتلة تايفون إلى جانب المملكة المتحدة وايطاليا واسبانيا) ان تحظر وتمنع تصدير المقاتلة الاوروبيّة الى المملكة السعودية لاعتبارات سياسيّة.
وبناءً على كل هذه الاعتبارات، لقد اختارت كل من قطر ومصر والإمارات العربية المتحدة المقاتلة الفرنسية رافال والتي دخلت الخدمة في سلاحهم الجوّي ضمن برامج تجديده وتفعيل امكاناته في بيئة جيواستراتيجيّة متغيّرة وبيئة عسكريّة وتكنولوجيّة في تطوّر دائم. واعتمدت تلك الدول المقاتلة رافال، كما فعلت ايضاّ دول اخرى من خارج المنطقة، مرتكزة على التزام الشريك الفرنسي بنوعيّة السلاح والانظمة، وببرامج التدريب والصيانة والتطوير ونقل المعرفة والتكنولوجيا، وعلى احترام تعهّداته السياسيّة والاستراتيجيّة والعسكريّة، وكذلك على عدم تدخله بخصوصيًات الشاري اكانت عملانيًة أو سياسيّة أو غيرها.
وقد يكون السؤال الأبرز الذي تطرحه دول المنطقة عند تقييمها لمشاريعها الدفاعيّة الكبرى مع شركائها الدوليين هو حول خططهم للتعاون المستقبلي. فلدى اختيارهم برامج دفاعيّة استراتيجيّة، كما هو حال المملكة السعودية على سبيل المثال لا الحصر التي تدرس تطوير قدراتها الجويّة، يشترط كبار مستوردي الأسلحة في المنطقة المشاركة في البرامج المستقبلية دون أن يكونوا عرضة للابتزاز والتمييز عبر منظومة رخص التصدير المعقًدة والجائرة احياناً. فالسعودية تضع شرطا لشراء التايفون وهو أن تشارك هي أيضا في البرامج التطويريّة المستقبليّة، أي في تطوير برنامج المقاتلة الشبحيّة “العاصفة”. وهنا تقع المشكلة إذ أن المملكة المتحدة وايطاليا تطوّران ال “Tempest” بالتعاون مع دولة ثالثة هي اليابان التي قررت (كما فعلت قبلها المانيا فيما خصّ تصدير التايفون) ان تضع شروطاً تضمن لها حق الامتناع عن بيع وتصدير المقاتلة إن اقتضت ذلك مصلحتها الخاصة. ومن بين الشروط التي تلتقي حولها اليوم كافة الأطراف المشاركة في الائتلاف الحاكم في اليابان:
- الاكتفاء بتصدير المقاتلة والامتناع عن تصدير الانظمة الاخرى المطورة من قبل الشركاء الثلاث معا.
- الامتناع عن بيع المقاتلة الى دول مشاركة في صراعات مسلحة.
- تصدير المقاتلة حصراً الى الدول الموقّعة لاتفاقيّة مع اليابان حول تصدير الاجهزة العسكريّة.
بالإضافة إلى تلك الشروط، تحتفظ الحكومة بحرية وضع شروط أكثر صرامة عند الحاجة للسماح بتصدير المقاتلة، حسب المباحثات الدائرة بين الافرقاء المعنيين.
فمن شأن هكذا شروط أن تعقّد وحتى ان تمنع عمليّة تصدير التايفون في المدى المنظور. فهل يكون ذلك لصالح فرنسا ولصالح مقاتلتها السياديّة رافال؟
بالفعل تعتمد فرنسا سياسة خارجيّة وسياسة دفاعيّة أكثر احتراما لشركائها وملاءمة لمصالحهم مقارنةً بسياسات دول أخرى كألمانيا واليابان وهذا محط تقدير شركائها العرب كما يؤكّده نجاح قطاع الدفاع الفرنسي في توسيع حصّته عربيّا ودوليّاً. ونجاح المقاتلة رافال في الأسواق العربية والدوليّة الشديدة التنافسيّة خير دليل على ذلك… لكن ماذا عن المستقبل؟
هل ستستطيع فرنسا المحافظة على ميزتها الاساسيّة بين مصدري السلاح الدوليين، اي استقلاليّة قراراتها السياديًة فيما خص صناعتها العسكرية ومبيعاتها الخارجية؟
ماذا عن برنامج ال “FCAS” لمقاتلة الجيل السادس وهو برنامج منافس لل “Tempest”؟ السؤال يطرح نفسه بحيث أنّ فرنسا وبفعل مشاركتها ألمانيا في هذا البرنامج الاستراتيجي تسلك الطريق نفسها التي سلكها البريطانيون والايطاليون عندما قرروا اشراك اليابانيين في ال “Tempest”. قد يخسر الفرنسيون بذلك امكانيّة توسيع حصًتهم مستقبلاً في اسواق التصدير وذلك لصالح الاميركيين والروس والصينيين على الارجح… فلماذا المخاطرة بموقع فرنسا الحالي المتقدّم لصالح منافسيها الدوليين؟