لطالما استلهم ولي عهد ابوظبي والحاكم الفعلي للإمارات الشيخ محمد بن زايد آل النهيان من مواقف والده المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان المتزنة ومن رؤياه العميقة في تعاطيه مع الأمور الداخلية للعائلة وللإمارة وللدولة وفي علاقاته مع حكام الإمارات الستّ الأخرى ومع دول الجوار. فاتسمت علاقاته الداخلية والخارجية بالواقعية وبالانفتاح على الآخر وبتقبل التناقضات والتعاطي معها بفكر منطقي. فانطلق الشيخ محمد بمشواره السياسي وهو يسعى باستمرار لكي يكون خير خلف لخير سلف، معتمداً مبدأ التوازن في العلاقات مع الحلفاء الدوليين ورافضاَ وضع نفسه والإمارات في موقع الالتزام المطلق والأعمى مع حليف مهيمن وعلى حساب حلفاء تاريخيين. فاعتمد التوازن بين الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي الجديد وفرنسا الحليف التقليدي، قبل ان يختار الانفتاح بتوازن ايضاَ على قوى صاعدة اقليمياَ: الهند والصين وروسيا. وفي محيطه، اعتمد، مستلهماَ من مسيرة الشيخ زايد، السعي المستمر لعلاقات إيجابية مع السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي ومع دول عربية مؤثرة، كما حاول الابتعاد عن المواجهة مع الجار الايراني دون ان يتخلى عن المطالبة بالحقوق الإماراتية والعربية.
لكنه ومع الوقت، بدأ يبتعد تلقائياَ عن مبادئ الأب المؤسس، واضعاَ نفسه في موقع الحليف المكتفي بعلاقات متميزة مع واشنطن، ومخاطراً بالاستقرار الاقليمي عبر اعتماد سياسات غير تقليدية في ملفات عدة ومنها المواجهة مع إيران كملحق بالولايات المتحدة، وخوض الحروب الدامية والمكلفة كالحرب في اليمن التي يخوض الى جانب المملكة السعودية، المساهمة بضرب الميثاقية داخل مجلس التعاون الخليجي عبر محاصرة قطر، والمجازفة بالانغماس في حروب ضد انظمة عربية في ليبيا وسوريا خدمة لمصالح خارجية. فبذلك، راح يبتعد تدريجياً عن خيارات والده الذي لطالما رفض الارتهان لقوى عظمى مهما كبر نفوذها وحافظ على التوازنات الفعلية بين الحلفاء وليس شكلياً، كما راح يبتعد عن مبادئ اخرى تعلمها من والده فيما خص التضامن العربي وأولوية الحفاظ على الاستقرار ورفض الانجرار خلف مشاريع هدامة.
واليوم، يسعى الشيخ محمد لإعادة التفكير بقراراته التي اخرجته من تحت عباءة الأب الملهم، ساعياً لتنويع علاقاته الدولية بتأكيد انفتاحه على شركائه الأسيويين الجدد وعلى روسيا وبالعودة لعلاقاته التاريخية مع حلفاء الإمارات الاوروبيين وعلى رأسهم فرنسا. كما يبدي استعداداً لإعادة حساباته الإيرانية والسورية والقطرية، خوفاً من أن يهدم عدم الاستقرار الناجم عن المواجهات العبثية ارث والده وطموحه في بناء مجتمع مزدهر ومستقر. فبقراره الجريء هذا، يسعى الشيخ محمد، وهو الحاكم الفعلي للإمارات العربية المتحدة، للعودة لقواعد فكر زايد ولعقلانيته البناءة. ويبدو ذلك جلياً في تنبهه لمخاطر ايجاد نفسه رهينة تحالفه مع واشنطن وفقدانه بذلك حرية قراره وتحركه. فوالده الشيخ زايد، والذي لطالما اعتمد على علاقاته الفرنسية لصد محاولات حليفه الاميركي السيطرة المطلقة عليه، لم ينجر خلف الاغراءات الاميركية للاعتماد على التفوق التكنولوجي والقوة العسكرية حصرياً لحل النزاعات. أما محمد بن زايد، فبابتعاده عن هذا الموقف الاساس، أوجد نفسه في مستنقعات الأزمات والحروب كمن لم يعتبر من دروس ملهميه الجدد في افغانستان والعراق…
لكنه اليوم، وهو يعيد حساباته، يبقي طبعاً على حلفه الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وهو يسعى بالوقت نفسه إلى الحدّ من وطأة النفوذ الاميركي عليه وعلى قراره الذي يريده حراً من جديد. وهنا قد يستلهم مجدداً من والده انفتاحه على الحليف الفرنسي الموثوق به والذي يؤكد يوماً بعد يوم التزامه بأمن وسيادة وازدهار حلفائه آل النهيان وانه وبعكس الحليف الاميركي يحترم استقلالية قرار ابوظبي وخاصة انه لم يسع يوما لاستدراجها لاي مواجهة عبثية حفاظاً على استقرارها واستقرار محيطها. فبالنسبة لرئيس الإمارات المقبل، العودة الى فكر الاب المؤسس تمر بإعادة النظر بأخطاء الماضي القريب وبإعادة الاعتبار لركائز سياسات ومواقف الشيخ زايد على الصعيد الداخلي اولاً وعلى الصعيد الاقليمي والدولي ثانياً. وفي التقرب من الشريك الفرنسي والتعاون الوثيق معه في ملفات المنطقة عودة طبيعية الى فكر زايد…