البكاء على الاطلال اصبح من ركائز الخطاب السياسي المسيحي، كما التباكي على موقع فقدته احدى المكونات الاساسية للكيان اللبناني بفعل فقدان قادتها ورعاتها للفكر الاستراتيجي وتلهيهم بالقضايا الثانوية. بالفعل، لقد فقد المسيحيون والموارنة بالتحديد ما جعل منهم ركن لبنان الدولة الحديثة الميثاقية المتعددة:
(١) فالمسيحيون فقدوا العدد وهم اليوم وما اذا احتسب مليونين من اللاجئين السوريين والفلسطينيين، وهو امر واقع يجب عدم انكاره بعد الآن، لا يشكلون اكثر من ٢٠% من سكان لبنان؛ فبفقدانهم الثقل الديموغرافي يفقدون ما جعل منهم ركيزة الفسيفساء الدينية والمذهبية والثقافية التي اولدت هذا البلد المتنوع في محيط قل فيه التنوع.
(٢) والمسيحيون فقدوا الثقل الاقتصادي وهذا يظهر جليا في تهميشهم في قطاعات كان لهم الدور الأبرز في تطويرها: قطاع المصارف وقطاع السياحة وقطاع الزراعة. والتهميش للدور الاقتصادي للمسيحيين امر له تفسير جيوسياسي، بحكم تدفق البيترودولار ومن ثم المال السياسي او حتى المال الجهادي … ولتهميش المسيحيين اقتصاديا سببان آخران اساسيان: التباعد الحاصل بين الاغتراب المسيحي والوطن الام وعدم استفادة المناطق المسيحية واقتصادها لا في زمن الاحتلال السوري ولا في زمن التحرير… تسييس الاقتصاد ومذهبته فعل التقاطع الحاصل بين طبقة الاعمال و الطبقة السياسية في لبنان والممولين الأجانب، ولا يترك الا القليل لرجال الاعمال المسيحيين والامثلة على ذلك كثيرة …
(٣) كما فقد المسيحيون دورهم الريادي في مجال العلم والثقافة، لكن ليس بالضرورة لصالح ديموقراطية المعرفة… ما اوجدته الارساليات المسيحية من مدارس وجامعات ونواد علمية وثقافية فقد الكثير من تفوقه الطبيعي بفعل المنافسة الصحية والضرورية لرفع الآداء العام. لكن الشوائب كثيرة اكان في تدني المستوى العام او في عدم المعاملة بالمثل بين بيئة واخرى… على كل حال، ومهما كانت الاسباب، ومع الامل ان يساهم انتشار المعرفة والعلم في انفتاح اللبناني على الآخر، يبقى ان المسيحيين فقدوا هنا ايضا وضعية متقدمة كانت قد ضمنت لهم الصدارة في مجالات متعددة اكانت اكاديمية او ثقافية او علمية او قضائية ام تجارية الخ.
(٤) وربما أكثر ما فقده المسيحيون وهو أكثر ما سيؤثر على ديمومتهم، هو فقدانهم لقادة سياسيين وروحيين يتمتعون بالفكر الاستراتيجي وبالعقلانية وبالنزاهة.
خلاص المسيحيين اللبنانيين والمشرقيين لن يأتي الا بالتضحيات، ولكن بالتضحيات الذكية والصائبة، ولن يأتي الا ضمن رؤية واضحة، ولكنها رؤية استراتيجية شاملة، ولن يأتي الا بوجود قادة روحيين وسياسيين متحررين من مصالحهم الضيقة. مسيحيو لبنان امام حائط مسدود، وهو واقع ان لم نقاربه بجرأة وواقعية وإيمان فلن ينجلي.