مصر: الناصرية الجديدة تختصر الخيارات الاستراتيجية للرئيس السيسي


للرئيس عبد الفتاح السيسي خلفية ناصرية تتظهر يوما بعد يوم في خياراته الاستراتيجية، وخاصة في مجال السياسة الخارجية حيث يسعى جاهدا لتنويع تحالفاته بهدف الابقاء على حرية القرار والتحرك وانجاح تموضع مصر على الساحة الاقليمية والدولية.

لقد تعلم السيسي من مسؤولياته السابقة في الجيش والنظام ومن تعاطيه الشأن السياسي مباشرة وخوضه معترك السياسة الداخلية والخارجية، اهمية الحفاظ على الاستقلالية وعدم الوقوع بفخ الارتهان لجهة واحدة، داخلية كانت او اقليمية او دولية. فاذا به يحيد على طريقته الاخوان المسلمين وينفتح على الافرقاء السياسيين الباقين، ويعيد الحرارة لعلاقات مصر بدول الخليج الفاعلة من اجل تدعيم النظام العربي المهترئ، كما انه اعاد التأكيد على التزامه باتفاق السلام مع اسرائيل، وانخرط مباشرة بالجهد الدولي ضد الارهاب من ليبيا الى سيناء. وعلى الصعيد الدولي، اعاد الاعتبار لموقع مصر كحليف اساسي للولايات المتحدة في المنطقة، ملتزما كما سبق وذكر بأمن اسرائيل وبمكافحة الارهاب، ولكنه في الوقت عينه اعطى واشنطن اشارات متعددة ومتتالية حول ضرورة عدم جر مصر الى مغامرات جديدة في الداخل والخارج وحول ضرورة احترام خصوصيتها واستقلال ارادتها وعدم محاولة اعادة العقارب الى الوراء بالسعي لاختزال القرار المصري… فيعتبر المشير عبدالفتاح السيسي ان السير خلف اميركا، الحليف الاقوى دوليا، بطريقة عمياء وبتبعية تامة، لم يحافظ في السابق على مصالح مصر ولن يؤمن لها ذلك في وقت تكبر التساؤلات حول سياسيات واشنطن الدولية والشرق اوسطية … فتأكد للرئيس المصري ان سياسيات الادارات الاميركية المتعاقبة التي ترتكز على مفاهيم الفوضى الخلاقة لتنتج الكثير من الفوضى على حساب انظمة وشعوب المنطقة بمن فيهم حلفائها الاكثر التزاما بسياساتها، لا تناسب مصر وموقعها ومصالحها، فاعتمد سياسة الانفتاح على شركاء دوليين آخرين يعتمد عليهم ضمن سلة من التحالفات الدولية لا تستثني بالطبع الحليف الاميركي لكنها لا تعطيه الافضلية المطلقة او الحصرية كما كان في الماضي القريب. فكان الانفتاح على روسيا، وهي لاعب فرض نفسه على خارطة صراعات المنطقة وهو قادر بفعل تمايزه عن واشنطن وتكامله ربما ايضا معها، على دعم تموضع مصر كقوة عربية سنية اقليمية في مقابل صعود إيران الشيعية وتركيا الاسلامية. وبإمكان روسيا، التي ستبني اول محطة كهرباء نووية لمصر، ان تسهم في التطور الاقتصادي والانمائي لمصر خاصة إذا استمرت دول الخليج العربي بدعمها المالي لنظام السيسي، كما بإمكانها ان تدعم مؤسسة الجيش المصري ببرامج تسليح وتدريب وان تتعاون مباشرة معها من اجل مكافحة الارهاب والتهديدات المشتركة.

كل تلك الملفات كانت بصلب المباحثات التاريخية التي اجراها الرئيس ڤلاديمير پوتين في القاهرة في ٠٩/٠٢ مع الرئيس عبد الفتاح السيسي. واستكمالا لانفتاحه الدولي ودعما لسياسته الخارجية الاستقلالية، يستمر المشير السيسي بانفتاحه على دول اوروبا الفاعلة في المنطقة والتي يمكن الاعتماد عليها من اجل تثبيت خياراته الاستراتيجية: فكان التقارب الكبير مع فرنسا التي اثبتت خياراتها الكبرى صوابيتها في حين فشلت المشاريع الاميركية المتهورة في العراق مثلا او في المراهنة على الاخوان المسلمين او في محاولة ضرب إيران الخ. لم تكن خيارات فرنسا كلها موفقة: فمغامرة ليبيا مثلا كان لها نتائج كارثية لليبيا اولا ولمحيطها ثانيا. لكن لا بد من الاشارة هنا ان اخطاء فرنسا تلك هي بالفعل اخطاء اجنحة مغامرة من الطبقة السياسية الفرنسية التي التزمت هي ايضا بخيارات المحافظين الجدد في واشنطن… على اي حال، برهنت فرنسا، الدولة الاوروبية الفاعلة واللاعب النشيط على الساحتين الافريقية والعربية، انها ملتزمة اخلاقيا وعسكريا وامنيا واقتصاديا وسياسيا بإعادة تصويب الامور واعادة ترتيب الاولويات حيث تدعو الحاجة. فذهبت لمحاربة الارهاب في الساحل، ودعمت عمليات القوات الاماراتية والمصرية في ليبيا، ونشرت قواتها البحرية والجوية في الخليج وفي البحر المتوسط وفي المشرق العربي، وانضمت بدون تردد للتحالف الدولي ضد داعش، والتزمت مساعدة الدولة العراقية كما الاكراد العراقيين في تطوير قدراتهم العسكرية، وابقت على التزاماتها الامنية تجاه لبنان، كما انها اعادت للعب دور محوري في الانفتاح الدولي على إيران الخ. ففرنسا النيو-الديغولية لا بد ان تلتقي ومصر النيو-الناصرية وهذا ما قد حصل. واهم ما يؤسس لتعاون مستدام بين الطرفين يبقى التقاء المصالح بينهما، اكانت استراتيجية او سياسية او اقتصادية او امنية او عسكرية. وما قد يختصر كل تلك المصالح ويؤكد على ثباتها هو برامج التسلح الكبرى التي يطلقها الطرفان اليوم والتي تضمن لمصر استقلالية اكيدة تجاه الولايات المتحدة ودعما استراتيجيا حتميا والتزاما سياسيا غير مشروط من قبل حليف اثبت ويثبت يوم بعد يوم مصداقيته في المنطقة.

Scroll to Top