نشر في جريدة الثبات في 28 آذار 2012.
فادي عساف
تبدو الحرب على ليبيا مختلفة تماماً عن حرب “إسرائيل” على لبنان في تموز 2006، وإن كان القاسم المشترك بينهما من الناحية العسكرية هو الاستعمال المكثف لسلاح الجو، لكن من خلال تكتيكات مغايرة.
لقد شوّهت حرب عام 2006، إذا جاز التعبير، المفهوم العسكري والدفاعي للطائرات الحربية عند استعمالها في القصف العشوائي والواسع النطاق والإجرامي، لكن من دون جدوى من الناحية العسكرية، ومن دون النيل من إمكانات المقاومة، في حين أن الحرب الليبية أعطت قراءة مختلفة لوظائف سلاح الجو، الذي تمكّن من خلاله، وبفضل التحالف الغربي المدعوم عربياً، من إطاحة نظام العقيد معمر القذافي، فالحرب في ليبيا أظهرت بما لا شك فيه أن سلاح الجو وإن كان ليس كافياً لكسب الحروب، فهو ضروري وأساسي لسير العمليات العسكرية، وساعد ذلك في الحد من الجهد البري لقوات الناتو وحلفائها، فيما وفّرت القوات الجوية قدرات هجومية كبيرة، وأمّنت بذلك أفضل الدعم لقوات المجلس الوطني الليبي.
الطائرت من دون طيار برزت في هذه الحرب كأداة عسكرية أساسية، لم يعد ممكناً الاستغناء عنها في العمليات العسكرية المعقدة والحروب المعاصرة، وذلك بفضل إمكاناتها الكبيرة في المراقبة المركّزة على مواقع محددة لفترات طويلة (إلى 24 ساعة)، وفي تحديد الأهداف والمقاتلين، وفهم الواقع على الأرض، والتحركات المعادية عبر كاميرات محمولة عالية الدقة، وأيضاً في التمكّن من إطلاق صواريخ محكمة الدقة على أهداف محددة من بعيد. فالحرب الليبية أظهرت مدى أهمية الدور الذي تؤديه الطائرة من دون طيار في العمليات العسكرية، كما أظهر الواقع الميداني مدى تقدم الأميركيين في هذا المجال، ومدى اعتماد الأوروبيين على الجيش الأميركي للاستفادة من إمكانات البريداتور، وهذا الاعتماد الكبير على الدعم الأميركي في ميادين القتال قد يقلق الدول الأوروبية، التي ترى نفسها مضطرة لعصر نفقاتها الدفاعية، وقد تكون فرنسا الدولة الأوروبية الوحيدة التي تبدي الإصرار اللازم من أجل الحفاظ على استقلاليتها في هذا المجال.
كذلك أظهرت العمليات العسكرية في ليبيا أهمية وفاعلية الأسلحة العالية الدقة، فكانت الحرب فرصة لفرنسا، لتقدير مدى دقة وفاعلية قنبلة “جو – أرض” من إنتاج ساجم المعروفة بـ”ا2سم” المعتمدة حديثاً من قبل سلاحها الجوي، كما أعطت الفرصة، خصوصاً للبريطانيين، لإبراز مدى التقدم الذي حققوه في هذا المجال، عبر استعمال القنبلة الذكية والفائقة الدقة “بريمستون”.
بالنسبة إلى الفرنسيين أيضاً، فقد أثبتوا خلال الحرب الليبية سيطرتهم على جوانب القتال الجوي، وتفوّقهم في مختلف وظائف سلاح الجو، بفضل اعتمادهم الأساسي على طائرتهم المتطورة “الرافال” المتعددة المهام. فقد نفّذت “الرافال” خلال الحرب مهاماً شملت في الوقت عينه القصف البعيد المدى، واستعملت فيه صواريخ الـ”سكالب”، كما نفذت عمليات الدفاع الجوي، وعمليات قصف عادي “جو – أرض” وعمليات استطلاع، وأظهر الفرنسيون مدى تطور أدائهم في وظائف سلاح الجو، وهذا يُعد تطوراً كبيراً إذا ما قارناه بإمكاناتهم خلال حرب العراق الأولى، حيث ارتكز في حينه سلاح الجو الفرنسي على طائرات قديمة من طراز “جاغوار”، وعلى طائرات “ميراج” قديمة التجهيز ومحدودة الإمكانات.
ومن وقائع الحرب الليبية ما برز لدى البريطانيين، وهم الذين كانوا يصنَّفون كقوة عسكرية مهيمنة في أوروبا من بعد الحليف الأميركي الأقوى في الناتو، فنقاط الضعف الكثيرة، التي لم تستطع بعض نقاط القوة لديهم، كامتلاكهم أنظمة قصف كبيرة الدقة (بريمستون)، حجبها، فبدا البريطانيون غير مهيئين لحرب سريعة وتكنولوجية مرتكزة على سلاح جو فعال ومتكامل، وهم منهكون بحروبهم في أفغانستان والعراق، ومنهمكون بانسحابهم من المستنقعيْن الأفغاني والعراقي، كما أهم منهمكون أيضاً بإعادة تنظيم أداتهم العسكرية التي تخسر من ميزانياتها وتحرم من تجديد ترسانتها، ما عدا بعض الانظمة الضرورية جداً، كالصواريخ المحمولة جواً، فطائرة التايفون التي شاركت للمرة الأولى في عمليات حربية من هذا النوع منذ إطلاق برنامج إنتاجها في الثمانينات، خيّبت الآمال بضعف إمكاناتها العملانية، والتي أثبتت أنها جد محدودة، فالطائرة البريطانية بدت مجردة من وظائف بديهية لمقاتلة عصرية، إذ إنها لم تستطع القيام بعمليات قصف بعيدة المدى، كما أن الاعتماد عليها لم يمكن القيام بعمليات استطلاع، فيما إمكاناتها في مجال القصف الجوي بدت ضئيلة وأقل فاعلية من تلك التي توفرها طائرة بريطانية أخرى هي “التورنادو”، التي طُوّرت في السبعينيات، فطائرة “التايفون” التي أقدمت على شرائها مؤخراً دولتان هما النمسا والسعودية، هي أشبه باللغز الكبير بالنسبة إلى كثير من الخبراء، إذا ما تمّت مقارنة كلفتها بفاعليتها، ذكّرتنا في حرب ليبيا أنها طائرة طورت في الثمانينات، وفي ظروف سياسية وعسكرية مختلفة أيام الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة.
وإذا أردنا التعمّق في تقييم أداء القوات الأميركية في حربها على ليبيا، فتظهر صراحة نقاط ضعف تلك القوات التي تنسحب شبه منكسرة من العراق ومن أفغانستان، وقدراتها مستنزفة على عدة جبهات في آن واحد. فحتى الدور الذي يطمح الجيش الأميركي لأن يلعبه في الساحات الجيوسياسية كافة، يبدو موقع تشكيك اليوم، على ضوء التجربتين الأفغانية والعراقية، وعلى ضوء التجربة الليبية أيضاً، بحيث شاركت الولايات المتحدة في العمليات العسكرية ضد ليبيا بقليل من الحماس، وباندفاع محدود، بينما ينكب الخبراء والمسؤولون السياسيون في واشنطن على تقييم إمكانية العودة إلى سياسة الانعزال والانكفاء.
على الصعيديْن العملاني والتكنولوجي، لا بد من التساؤل إذا ما كانت الولايات المتحدة، وهي أول قوة عسكرية في العالم، بدأت فعلاً بالانكفاء على ذاتها، وبإعادة خلط الأولويات السياسية، بما ينذر بإعادة النظر في وتيرة البرامج الدفاعية الكبرى، ومنها ما يخص تكنولوجيا الطيران وسلاح الجو.
لقد بدى من خلال الحرب الليبية أن سلاح الجو الأميركي لم يكن اللاعب الأكبر والمهيمن في العمليات الحليفة كما عوّدنا خلال السنوات الماضية، وقد اكتفى باستعمال بعض طائراته القديمة العهد والتكنولوجيا كالـ”أف-16″ والـ”أف15″ التي صممت بالسبعينيات، كما وضع بعضاً من إمكاناته الاستخباراتية (بيرداتور) واللوجيستية (طائرات التموين) بتصرف الطيران الحليف.
إن السباق التكنولوجي الجامح من خلال برامج تطوير طائرتين حديثتين خفييتين هما الـ”أف-22″ والـ”أف-35″ يحتم على الأميركيين أعباء مالية غير متوقعة، ويحمل تعقيدات تكنولوجية وعملانية كبرى كما يشاع في الدوائر الأميركية المعنية وفي الإعلام الأميركي أيضاً، وفي هذا السياق يسأل تقرير إخباري صدر في “الواشنطن بوست” في 27 كانون الأول من العام المنصرم عما إذا كانت البرامج المعتمدة الآن من قبل صناعات الطيران الأميركية تعكس قرارات استراتيجية وعملانية صائبة أم لا، وهل هذه البرامج ستتيح فعلاً للقوات الأميركية أن تحصل على ما ينقصها لتقوم بمهام جوية من أجل معالجة الأخطار المتجددة.. ويبقى السؤال الكبير: هل توانى الأميركيون عن الاستعداد لحروب اليوم بانهماكهم في تحضير حروب المستقبل البعيد؟
في المحصلة، تبقى الولايات المتحدة الأميركية اليوم القوة العسكرية الأولى في العالم، وتبدو قادرة، مبدئياً، على الاعتماد على إمكاناتها التكنولوجية الهائلة لتثبيت موقعها، وإن كان يراودنا الشك عندما نرى التردد الذي بدأ يقع فيه الأميركيون عند اتخذاهم القرارات الاستراتيجية الكبرى حالياً، كما أنه من البديهي الاستنتاج من التجربة الليبية أن بريطانيا تدفع اليوم ثمن خيارات استراتيجية غير موفقة جعلتها أسيرة تحالفاتها السياسية الأوروبية والأطلسية، مما يحرمها من الاستقلالية التي باتت تنقصها من أجل الحفاظ على دورها المحوري بين الدول الفاعلة.
أما فرنسا، فخياراتها فيما خص استقلالية أداتها الدفاعية والعسكرية، والتي أرساها الجنرال ديغول وجعلها مجدداً أولوية استراتيجية الرئيسان جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، فتبدو صائبة عموماً، فالاستقلالية التكنولوجية التي اعتمدتها فرنسا، وحرية التحرك التي يؤمّن لها ذلك في المحافل الدولية وضمن تحالفاتها الكبرى، يسمح لباريس أن تلعب الدور الذي تطمح إليه، بالرغم من تواضع حجمها بالنسبة إلى قوى عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية أو الصين أو روسيا.