نشر في جريدة المستقبل في 2 آذار 2012 وفي جريدة اللواء في 13 آذار 2012.
منى سكرية
ترتبط سياسة “التوجه إلى الخارج” (Going Abroad) ارتباطًا طبيعيًا بالصين، وعن وجه حق. لكن من وجهة نظر شرق أوسطية، برز مؤخرًا بلدٌ أصغر حجمًا بات يرسّخ موقعه أكثر فأكثر ويستحق الإضاءة عليه. في العام 2009، تفاجأ الجميع عندما فازت مجموعة من شركاته الرائدة بعقدٍ بقيمة 20.4 مليار دولار أميركي لتشييد أربع منشآت لإنتاج الطاقة النووية في الإمارات العربية المتحدة، بعد أن تفوّقت على شركات عريقة فرنسية وأمريكية. هذا الحدث دفع البلد بقوة إلى الصفوف الأمامية، لكنه كان بالفعل مجرد محطة في سلسلة طويلة من مشاريع بقيمة مليارات الدولارات في الخليج العربي وباقي الشرق الأوسط منحت كوريا الجنوبية بعدًا جديدًا في المنطقة.
كان معدل الدخل في كوريا الجنوبية مشابهًا لمعدل دخل أكثر البلدان فقرًا منذ 50 عامًا، لكنها تتميّز اليوم باقتصادٍ رائد من بين إقتصاديات العالم الأكثر تطورًا. وكوريا الجنوبية رائدة في قطاعات الاتصالات وتكنولوجيا الإنترنت، والبحث والتطوير وصناعة السيارات على سبيل المثال لا الحصر، وحلّت سابعةً من حيث صادرات السلع في العام 2010، حيث تفوقت على المملكة المتحدة. وفي العام الماضي، سجل اقتصادها نموًا قدره 6.2% على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم.
إذا ما أرادت “أرض العجائب”، كما باتت تُعرف، أن تحافظ على حجم اقتصادها، ينبغي أن تضمن حاجاتها إلى الطاقة. ونظرًا إلى ندرة الموارد الطبيعية فيها، تُعتبر كوريا الجنوبية من بين أكبر مستوردي الطاقة في العالم، ومن الطبيعي أن توجه أنظارها إلى منطقة الشرق الأوسط الغنية بالطاقة وتنسج صلات وثيقة ببلدان المنطقة.
صحيح أن الحاجة إلى الطاقة كانت الدافع الاساسي وراء اهتمام كوريا الجنوبية بالمنطقة، لكن بعد أن أقيمت الروابط الضرورية، رأت الأطراف جميعها فائدة تعزيز الصلات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية. فلا ترى كوريا الجنوبية أن الشرق الأوسط مصدر 70% من وارداتها النفطية و48% من واردات الغاز الطبيعي فحسب، لكنه يشكل أيضًا سوقًا واسعًا لم يجري استكشافه استكشافًا وافيًا بعد. وإذ تسعى إلى توسيع دورها الدبلوماسي تماشياً مع حجم اقتصادها الذي يضعها في المرتبة الثانية عشر عالمياً، تأخذ اليوم على عاتقها مسؤوليات جديدة، فتشارك في تعزيز الأمن وضمان الاستقرار من خلال نشر قواتها في المنطقة. في خلال السنوات العشر الماضية، أوفدت كوريا الجنوبية بعثات حفظ السلام إلى العراق وجنوب لبنان حيث ما زالت حتى اليوم. وتمركزت وحدة من جيشها تتألف من 350 عنصرًا في عرض البحر قبالة الساحل الصومالي منذ العام 2008، لإجراء عمليات مكافحة القرصنة. وفي العام 2011، بدأت مهمة تدريب القوات الإماراتية وتنظيم التمارين المشتركة معها، ومن المفترض أن تدوم هذه المهمة عامين. لهذا الغرض، نُشر 130 عنصرًا من الجيش الكوري الجنوبي في الإمارات كجزء من وحدة “الأخ”. ووفقًا لقائد هذه الوحدة العقيد شوي هان-أوه، يساهم نموذج التعاون العسكري الجديد هذا في الارتقاء بصورة البلد، وهو البلد الذي يهدف بالمناسبة إلى تحقيق أربعة مليارات دولار من صادرات الأسلحة بحلول العام 2020، ليصبح من بين الدول العشرة الأولى المصدرة للأسلحة عالميًا. وبطبيعة الحال تأمل كوريا الجنوبية أن يأتي جزء من هذه الحصة من بعض الدول في الشرق الأوسط. وهي اليوم تخوض نقاشات مع العراق لبيعه طائرات تدريب عسكرية من طرازT50 في إطار صفقة شبيهة بصفقة “النفط مقابل الطائرات”، ومع الإمارات العربية المتحدة لبيعها طائرات بدون طيار، على أن تنقل إليها التكنولوجيا ذات الصلة بالإضافة إلى تكنولوجيا الصواريخ البالستية والقنابل الكهرومغناطيسية.
من وجهةٍ نظر عربية، تمثل البلدان النامية في شرق آسيا سوقًا مؤاتيًا لتنويع صادراتها النفطية. بالإضافة إلى ذلك، إن مليارات الدولارات التي تضخها شرق آسيا في المنطقة مقابل تزويدها بالطاقة تعادلها من حيث القيمة المشاريع التي تنفذها هذه البلدان نفسها في المنطقة، في ما يبدو دورةً مفتوحة من تدفق الأموال بالاتجاهين تفيد الطرفين معًا. ومقارنةً بالبلدان الغربية، يبدو أن بلدان شرق آسيا عامةً وكوريا الجنوبية خاصةً، أكثر ميلاً لنقل التكنولوجيا، حتى في المجالات الحساسة كالتكنولوجيا النووية، كما سيتضح للإمارات ,لربما المملكة العربية السعودية أيضاً، أو في مجال الدفاع كجزء من التعاون العسكري المتزايد. والأهم، نظرًا إلى الاستقطاب الحاد بين دول الخليج المدعومة من الغرب من جهة وإيران من جهة أخرى حول برنامج إيران النووي وطموحاتها الإقليمية، تقدّم كوريا الجنوبية خيارًا أقل جدليةً لكافة الأطراف. فهي تروّج لنفسها لتكون البديل على الرغم من رسوخها في المعسكر الغربي، ونجحت في أن تنأى بنفسها عن المشاحنات السياسية الإنقسامية فيما تستفيد من الفرص التي تتيحها لها هذه التوجهات الغربية. ولعلّ هذه الميزة، وإن كانت غير معلنة، أدت دورًا أساسيًا في منح مجموعة الشركات الكورية الجنوبية العقد لبناء أربع منشآت لإنتاج الطاقة النووية في الإمارات. وكانت هذه ضربة محكمة من قبل حكام دولة الإمارات، إذ تفادوا إغضاب جارهم الفارسي النافذ من خلال عدم منح العقد إلى الشركات الفرنسية أو الأميركية من جهة، وسمحوا إلى كوريا الجنوبية بتسجيل حضورها في الإمارات ولربما زيادة وارداتها النفطية من الإمارات على حساب النفط والغاز الإيراني من جهة أخرى!
إلا أن كوريا الجنوبية تواجه عقبات عدّة في الشرق الأوسط: (1) فهي تبني على ميزتها الأولى وهي التنافسية، التي تدعمها المنتجات الجيدة نسبيًا بأسعار جيدة نسبيًا. وقد تخضع تنافسية كوريا الجنوبية للتشكيك إذا ما إنحرف أحد هذين العنصرين المتغيرين عن المسار. فالعملاء والمستهلكون لا يبحثون دومًا عن المنتجات الفاخرة باهظة الثمن. وخير دليل على ذلك الصفقة النووية مع الإمارات. فاتحاد الشركات الفرنسية بقيادة “أريفا”، الذي كان يعتبر أن له الأفضلية، يشتهر بمفاعلاته النووية الأكثر سلامةً وأمنًا مقارنةً بنماذج المفاعلات المتطورة من الجيل الثالث المتوفرة حاليًا. إلا أن شركة الطاقة الكهربائية الكورية وشركاءها فازوا بالعقد استنادًا إلى السعر المقدّم وتاريخهم في إنجاز المشاريع إنجازًا سريعًا؛ (2) تعّد كوريا الجنوبية البلد الثاني من حيث عدد بعثات التبشير المسيحية وراء الولايات المتحدة الأميركية. أثار الرابط الواضح بين الحكومة الكورية ونشاط المبشرين شكوكًا كانت متوقّعة في منطقةٍ متدينة ومحافظة في الغالب. ولا بد إذًا من إيجاد أسس أخرى للتبادل الثقافي؛ (3) بعد أن ركزت كوريا الجنوبية على كردستان من خلال الصفقات النفطية ومشاركتها في البعثات العسكرية والإنسانية وإنشائها مشاريع بناء، وجّهت إليها بغداد انتقادات حادة، خوفًا من أن تشجع النزعة الإنفصالية في الإقليم الكردي. ومن المفيد أن تكتسب كوريا الجنوبية فهمًا أعمق للمنطقة وشعوبها ودينامياتها.
على الرغم من هذه العوامل كافة، من المتوقع أن تتزايد تبادلات كوريا الجنوبية مع بلدان الشرق الأوسط على نحوٍ لافت في السنوات القادمة، كما يتضح من خلال المشاريع المخطط لها في المنطقة. فتجربة كوريا الجنوبية في التنمية الاجتماعية الاقتصادية أو في الانتقال إلى الديمقراطية تؤهلها للاضطلاع بدورٍ أساسي في منطقةٍ تصبو إلى التنمية والديمقراطية معًا.
Click here for the English version.