منى سكرية
لم تخرج الدول الآسيوية سالمةً من الركود الاقتصادي العالمي، لكنها تبدو سالمةً بما فيه الكفاية لتصمد في وجه الأزمة. ومن المؤكد أن الديناميات والخصومات الإقليمية، ناهيك عن الأولويات الأمنية الداخلية الملحّة، سوف توجّه نسبةً هامةً من الإنفاق نحو الإنفاق العسكري. في السنوات الماضية، دفع توسع الصين العسّكري وطموحاتها المعلنة إلى الهيمنة بالإنفاق على الدفاع في منطقة شرق آسيا وجنوب شرق آسيا. وبحلول العام 2016، من المتوقع أن يبلغ الإنفاق العسكري في آسيا 32% من الإنفاق العسكري في العالم ليصل إلى 480 مليار دولار أميركي، ما يشكل ارتفاعًا عن نسبة 24% المسجّلة في العام 2007.
في صلب هذه الديناميات تقع الهند. فمنذ العام 2003، سجّل هذا البلد الناشئ نموًا تجاوز 8% في إجمالي ناتجه المحلي سنويًا هو الذي يتميّز بأحد الاقتصاديات الأسرع نموًا في العالم. ولقد أججت الخصومات التاريخية مع باكستان المجاور طموحات تنافسية في المعسكرين، وأفضت إلى أحداث مأساوية لكن أيضًا إلى بعض الإنجازات اللافتة. فالهند قوة إقليمية وأحد البلدان القليلة التي انضمت إلى نادي الدول النووية الحصري. ويعدّ الجيش الهندي من أكبر الجيوش في العالم وتحلّ الهند بين الدول الأكثر إنفاقًا في المجال العسكري.
في العام 2007، كشفت الهند النقاب عن مناقصة لشراء 126 مقاتلة عسكرية في إحدى أكبر صفقات الطائرات العسكرية في التاريخ. وتنافست 6 شركات أساسية للفوز بهذا العقد الذي بلغت قيمته حوالي 11 مليار دولار، وهي الشركات المصنّعة لطائرات غريبن السويدية، وميغ-35 الروسية، ورافال الفرنسية، ويوروفايتر تايفون الأوروبية، وف-16أن وف/أ-أن18 سوبر هورنيت الأميركيتين.
ولا ريب أن تعاون الولايات المتحدة الأميركية الوثيق مع باكستان ودعمها القوات المسلحة الباكستانية لم يصب في مصلحة طائرات ف-16 وف/أ-18 في المناقصة. وكان لطائرات غريبن وميغ-35 قدرات محدودة مقارنةً بالطائرات الأخرى. في نيسان/أبريل 2011، جرى اختيار طائرتين اثنتين للتنافس في المرحلة النهائية من المناقصة وهما طائرتي رافال ويوروفايتر. وفي 31 كانون الثاني/يناير 2012، أُعلن اختيار طائرة رافال الفرنسية وإطلاق مفاوضات حصرية مع الشركة التي تصنّعها.
أثار خيار الهند هذا أسئلة عدّة. فلا شك أن ثمن الطائرات أدى دورًا حاسمًا في الخيار، إلا أنه يبدو أن القرار عكس تصميم الهند الحازم على الحفاظ على استقلاليتها الدفاعية. ففي الفترة الأطول من الحرب الباردة، حافظت الهند على تعاونها الوثيق مع الإتحاد السوفياتي الذي كان مزودها الأكبر بالأسلحة. في السبعينيات، إشترت طائرات جاغوار البريطانية، وفي الثمانينيات، إشترت طائرات ميراج-2000 الفرنسية التي كانت تصنعها الشركة نفسها التي تصنّع اليوم طائرات رافال، في صفقة تبين أنها مُرضية تمامًا لا سيما أثناء حرب كارجيل ضد باكستان في العام 1999. وعندما اختارت الهند فرنسا، إنمّا اختارت شريكًا تبين أنه حليف موثوق. وعوضًا عن التحالف مع قوة كبرى واحدة، اختارت الهند أن تعزز دورها الدولي من خلال نسج روابط متعددة.
ووفقًا للمنطق نفسه، حرصت الهند على وضع بند في شروطها الأولية ينص على أن تسلّم الشركة الفائزة 18 طائرة مباشرةً من المصنع، فيما يجري تصنيع 108 طائرة أخرى بموجب ترخيص بعد نقل التكنولوجيا المطلوبة إلى شركة “هندستان أيرونوتيكس المحدودة” في بنغالور. وبالمناسبة، يشرح ذلك البند نفسه فتور استقبال خبر الصفقة في فرنسا. فوسائل إعلام فرنسية عدّة لم ترَ الفائدة من صفقةٍ قالت إنها لا تستحدث فرص عمل في فرنسا لكنها تشمل أيضًا نقل التكنولوجيا ما يبطئ القطاع الفرنسي في نهاية المطاف.
ولا شك أن سلسلة الفضائح التي ارتبطت بصفقات سابقة لطائرات يوروفايتر في النمسا والمملكة العربية السعودية كانت عاملاً لا يقل أهمية لم يصب في مصلحة طائرات يوروفايتر في المرحلة الأخيرة من إجراءات الاختيار في الهند. ففي بلد تنتشر فيه الممارسات الفاسدة ووسط حملة واسعة لمكافحة الفساد هزت البلد في الأشهر القليلة الماضية، لا يغفل المسؤولون أن الصفقة الأهم في مجال الدفاع في تاريخ البلد محط الأنظار اليوم لكشف أي سلوك مخالف، مهما كان بسيطًا.
ويبدو أن طائرات يوروفايتر كانت الأكثر تأثرًا في هذه المنافسة. فسوقها في آسيا اليوم بعيد المنال. وفيما يتراجع طلب الدول الشريكة (أي المملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا)، يبدو أن أملها الوحيد هو الشرق الأوسط، لا سيما إعادة الدخول المحتملة في مناقصة في الإمارات العربية المتحدة. لكن كما برز في المنافسة الهندية، تُدار المفاوضات الثنائية بطريقة أسهل بين عميل ومزود وليس بين عميل ومجموعة من الشركاء تختلف مصالحهم. فخيار الهند هذا من شأنه أن يعزز استقلال الطرفين: فنقل التكنولوجيا يضمن استقلالية الهند الدفاعية، فيما يضمن بيع 126 طائرة الاستدامة في قطاع الدفاع الفرنسي، إذ يسعى إلى أن يطور محليًا جيل الطائرات المقبل.
تعتبر المناقصة الهندية مثالاً مثيرًا للاهتمام خاصة أنها تلقي الضوء على مجموعة من المعايير المؤثرة على عملية صنع القرار القائمة في بلد ديمقراطي في صفقات كبيرة كهذه. إلى جانب معايير واضحة كالكلفة الشاملة أو الشروط الفنية، تؤدي الشروط الجيوسياسية (السياق الإقليمي وخيار الحلفاء)، والشروط التكنولوجية (نقل التكنولوجيا لتعزيز الصناعة المحلية) والشفافية بالطبع جميعها دورًا في اختيار الشركة الفائزة.
Click here for the English version.