نشر في جريدة النهار في 06 حزيران 2007
فادي عساف
يمكن تلخيص النقاش السياسي في لبنان اليوم في مسألة وضع استراتيجية دفاعية وطنية، وهي المسألة المحورية في جدول اعمال الحوار الوطني الذي أطلق أساسا في الوقت الضائع في انتظار ديناميكية اقليمية او دولية جديدة قادرة على خلط أوراق السياسة الداخلية، ويثير القرار 1559 الصادر عن مجلس الامن جدلية الدفاع الوطني في لبنان من خلال التطرق الى مسألة “حزب الله” وسلاحه. غير ان جدلية الدفاع الوطني مطروحة اليوم من منطلق ضيق ولا تظهر الا في حجمها العسكري المحدود. من الضروري اذا انتهاز هذا النقاش الذي بات عاما، بعدما كان من المحرمات منذ أشهر قليلة، بغية اخراجه من متاهات السياسة ومن العوائق التي يفرضها القرار 1559 وبغية محاولة فرض طريقة وطنية جديدة للتفكير في مسألة الدفاع الوطني في معناه الاشمل.
يملك “حزب الله”، وهو أهم المجموعات المسلحة الموجودة على الاراضي اللبنانية، استراتيجية دفاعية عسكرية ضد اسرائيل، وقد وضعت انطلاقا من ايديولوجيا خاصة جدا تتضمن ثوابت عدة قد تبدو نسبية في جوانب عدة. وحتى اليوم لا الايديولوجيا الاصولية للشيعة الموالين لايران والمتحالفين مع النظام السوري العلوي، ولا الثوابت المختلفة التي حددت رؤية هؤلاء الشيعة للأمن الداخلي ومقتضياته في مجالات الامن او الاستراتيجيا الدفاعية او التكتيك العسكري، تشكل موضع اجماع في لبنان. خصوصا ان التطورات التي عاشها اللبنانيون في الآونة الاخيرة نسفت أسس الحجج التي يقدمها “حزب الله” من أجل حض باقي الشركاء في الوطن على اعتماد نظرته الخاصة الى الامن القومي ونذكر من تلك التطورات الانسحاب الاسرائيلي من معظم الاراضي اللبنانية المحتلة، بفضل ضربات المقاومة، والانسحاب السوري بعد ما مارسته الاسرة الدولية من ضغوط غداة اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وشد الحبال بين ايران والمجتمع الدولي والاطاحة بالحكم البعثي السني العربي القومي وتسلم الشيعة زمام الحكم في العراق.
وعلى “حزب الله” الذي أوجد نفسه في لعبة المحاور الاقليمية بسبب انضمامه الطبيعي والبراغماتي من وجهة نظره الى المحور الايراني السوري، ان يضاعف جهوده اليوم اذا ما أراد ان يقنع شركاءه اللبنانيين بمقتضياته الامنية او بجزء منها على الاقل. وفي المقابل، بل بموازاة ذلك، يجدر بباقي مكونات المجتمع اللبناني ان تساهم في بلورة استراتيجيا دفاعية تأخذ بوضع لبنان ما بعد الحرب الاهلية وما بعد اتفاق الطائف وما بعد انسحاب اسرائيل وما بعد انسحاب سوريا وما بعد اغتيال الحريري وما بعد رحيل عرفات وما بعد اجتياح العراق… ونترك المجال امام الخبراء العسكريين كي يحددوا استراتيجيا الدفاع العسكري الملائمة للبنان في الوضع الراهن (ومن الممكن في هذا الاطار اختيار الحفاظ على استراتيجيا دفاعية لا تماثلية ولكن مجددة). كما نترك المجال ايضا امام السياسيين كي يحددوا ماهية الجهود التي يجب ان يبذلها اللبنانيون لحيازة السبل اللازمة والجديرة بأن تضفي مصداقية على استراتيجيا دفاعهم.
انما على القادة السياسيين قبل كل شيء ان يعيدوا التشديد على الاسس التي تسمح باعداد استراتيجيا الدفاع، ما يعني اعادة تحديد امتداد السيادة الوطنية (اي ترسيم الحدود ونزع سلاح الميليشيات بما فيها الميليشيات الفلسطينية) واعادة تقييم الاخطار ومواطن الضعف والتأكيد على الخيارات لجهة السياسة الخارجية (على الصعيدين الاقليمي والدولي)… كما يجدر بقادة البلد ان يتفقوا على السبل الضرورية للدفاع الوطني في اطار مقاربة شاملة تأخذ في الاعتبار الاولويات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة التي تؤثر مباشرة على استقرار لبنان وأمنه.
والآن، حان الوقت للنظر الى الاستراتيجيا الدفاعية اللبنانية كاستراتيجيا شاملة ومستدامة، تضم جانبا سياسيا وجوانب أخرى على حد سواء، كالاقتصاد والثقافة وغيرهما. والأهم على هذا المستوى هو احترام مبدأين أساسيين في الاستراتيجية الدفاعية، هما مبدأ الوحدة الذي يهدف الى جمع الجهود المدنية والعسكرية، ومبدأ الشمولية الذي يسعى الى اشراك كل مؤسسات الدولة في الجهود الدفاعية (أي السلك الديبلوماسي والمؤسسات السياسية الاقتصادية وغيرها).
والى جانب الحوار الحالي حول كيفية وضع استراتيجيا دفاعية وطنية والذي يهتم بمتطلبات الامن العسكري التقليدي، هناك فرصة امام اللبنانيين لمراجعة شاملة ومعمقة لرؤيتهم الى كيفية الدفاع عن بلدهم، نظرا الى التطورات المستمرة على الساحة الداخلية والى التقلبات التي تعرفها المنطقة والى العولمة المفرطة. فمن الضروري ان يستفيد اللبنانيون من فرصة التفات الحوار الى الشق الخاص بالدفاع الوطني لفرض طريقة مختلفة تسمح بضمان أمن بلدهم واستقراره وتسمح بالدفاع عن وجود لبنان في بيئته العربية والاقليمية كما على الساحة الدولية.
في هذا السياق، ان تعميم الادارة الصالحة التي ستسمح للبنان بطمأنة المستثمرين، وتكريس الثقافة الديموقراطية التي ستساهم في ارساء بيئة مؤاتية لازدهار المواطن وبرامج الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي التي ستتيح للبنانيين الفرصة لزيادة قدراتهم التنافسية في الاسواق الخارجية او تحقيق التنمية المتوازية او حتى تعزيز النسيج الوطني، كلها عناصر يجب ان تشكل جزءا لا يتجزأ من استراتيجيا دفاعية وطنية شاملة. كما ان تحويل لبنان الى “محج” للجاليات الاغترابية اللبنانية، قد يشكل بدوره أحد العناصر في استراتيجيا الدفاع الشاملة الخاصة بلبنان. أضف الى ذلك ان اعادة النظر في سياسة لبنان لجهة توسيع الحضور والتأثير في المحافل الدولية (كالجامعة العربية والامم المتحدة) ومنح البلد الوسائل الضرورية التي تسمح له بالاشعاع من جديد على الساحة الثقافية والاعلامية والاقتصادية، وبردم الهوة التي تسبب بها تخلف لبنان اخيرا في هذه المجالات، هما ايضا وجهان من أوجه استراتيجيا الدفاع الوطنية. ومن الضروري تنسيق كل هذه الجهود بغية تشكيل استراتيجيا دفاعية شاملة جديدة، الى جانب الاستراتيجيا العسكرية التي يتهيأ لبنان لاعتمادها. وفي الواقع، ستبوء كل محاولات الاصلاح والانفتاح هذه بالفشل ما لم يضمن أمن لبنان العسكري. وستظل أسس ذلك الامن العسكري موضع تشكيك ما لم يصبح الامن العسكري جزءا لا يتجزأ من رؤية أوسع لمفهوم الدفاع. واذا باستراتيجيا الامن العسكري تصبح وسيلة من الوسائل السياسية في خدمة الدفاع عن لبنان بمفهومه الشامل والحديث وعن كل لبنان.